مقدمة:
تميزت التربية في هذه المرحلة باستقرار النظريات التربوية على أفكار واضحة تجمع بين الفلسفة و البيداغوجيا وذلك للجهود الجبارة التي بذلها الفلاسفة والمفكرون في القرنين السابع عشر والثامن عشر،فشكلت في القرن التاسع عشر النزعة العلمية كامتداد للحركة الواقعية و النزعة النفسية كامتداد للحركة الطبيعية ، كما يمكن القول إذا كان شرف كتابة الكتاب التربوي الأول الذي يبحث عن الطفل يعود إلى جون لوك" فإنّ "روسو" يستأثر بشرف استخلاص التطبيقات التربوية من طبيعة الطفل حيث وجدت التربية للمرة الأولى هدفها وعملياتها وطرقها في حياة الطفل ذاته وخبرته. فغاية كل مرحلة من مراحل التربية هي النموّ الصحيح للطفولة، وما يحدد العملية التربوية إنما هو طبيعة الطفل ونموّه. وهكذا فإن أصل إصلاحات " بستالوتزي وهربارت وفروبل" وغيرهم موجود في تعاليم "روسو" الذي تشدّد في القول إنّ العطف على الطفولة يجب أن يكون جوهر كل عمل تربوي فكان من نتائج نظرية روسو هذه التي طبّقها بستالوتزي أن أصبح حبّ الطفولة محور العملية التربوية. وسنتناول تطور التربية في هذا العصر على النحو التالي:
لمحة تاريخيــة:
يجدر بنا الإشارة إلى أنّ تعاليم روسو هي الأساس الذي بنيت عليه كل التطورات التربوية في القرن التاسع عشر ( 1) رغم ما في هذه التعاليم من بعض المبالغات. وبما أنّ "الطبيعة"عنت بالنسبة إلى روسو الغرائز الموروثة والميول والقابليات لا الصفات التي يكسبها الإنسان من اختلاطه بأقرانه فإنّ روسو يعتبر زعيم علماء علم النفس التربوي. ولقد كانت من نتيجة نظرياته ومن أعمال بستالوتزي وهربارت وفروبل أحسن تطوّر مثمر عرفه تاريخ التربية.
وصارت التربية في القرن التاسع عشر تبحث عن الأسس التي تبني عليها عملياتها في معرفة فاعليات النفس البشرية وتطورها. ولم يبدأ الوضع العلمي لمبادئ علم النفس التربوي عن طريق الملاحظة والتجريب قبل منتصف القرن التاسع عشر. إلاّ أنّ محاولة مثل هذا الوضع بدأت في مطلع القرن التاسع عشر2 واتسمت بالنزعة السيكولوجية والاجتماعية بحيث استهدفت النزعة السيكولوجية تحسين طبيعة التربية في حين استهدفت النزعة الاجتماعية تعميم التربية.
لقد اتجهت النزعة السيكولوجية نحو تحسين طرق التعليم وروح غرفة الدرس وطبيعة المعلم وتدريبه وتعميم مفهوم أوسع وأصدق عن طبيعة التربية. وقد نتج عن هذه الحركة عطف على الطفولة ومعرفة بالطفل ونفسه واهتماماته وقابلياته، معرفة لم يكن للمدارس السابقة عهد بمثله ومن المفاهيم الأساسية في النزعة السيكولوجية كون التربية عملية نمو الفرد، وبهذا تتفق النزعة السيكولوجية مع النزعة الفردية التي نشأت في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع التاسع عشر.
وعن هذه النزعة الاجتماعية نتجت فكرة التشديد على أهمية التربية الشعبية العامة، ذلك التشديد الذي لم يكن ممكناً حيث كانت التربية الثانوية والجامعية هي الهدف. نشير إلى انه بذلت جهود كبيرة في القرن التاسع عشر في بلدان ألمانيا الكاثوليكية والبروتستانتية على حدّ سواء من أجل تنمية التعليم الشعبي. لأن أكثر الأولاد ولا سيّما البنات كانوا محرومين من التعليم. وكان الشعب والفلاحون خاصة يعتبرون الانتساب إلى المدارس عبئاً.
ولم يكن التعليم الإبتدائي في سويسرا أحسن حالاً منه في ألمانيا لأن الروح الطبقية كانت ما تزال تسيطر على التعليم وتجعل الفقراء في معزل عنه غارقين في ظلمة الجهالة. ومن الذين جاهدوا في تنمية التعليم الشعبي ومثّلوا الحركة العلمية نذكر بستالوتزي وهربارت وفروبل.
رواد التربية في القرن 19:
1- بستالوتزي :1746-1827
ترتبط حياة بستالوتزي الشخصية بعمله التربوي ارتباطاً وثيقاً. ففي حياته التي بلغت الثمانين من العمر لم يفتر خلالها عن العمل من أجل الأطفال ولم يهن في بذل نفسه من أجل تعليمهم. وهكذا تكوّنت لدى بستالوتزي، نتيجة التربية العاطفية غير العملية التي ربّته عليها أمّه بعد أن ترملت، منذ طور مبكر عادة التأثر العاطفي والاهتزاز للانفعالات بدلاً من عادة المحاكمة والتفكير. وقد كان لهذا موضع سخرية أقرانه في المدرسة فجنح إلى العزلة وغدا خيالياً حالماً. وعندما كان طالباً في الأكاديمية برز بستالوتزي بين أترابه بمحاسنه السياسية وجرأته الثورية. وفي تلك الفترة المبكرة من حياته تكوّن لديه شعور عميق ببؤس الشعب وحاجاته. وجعل هدف حياته منذ ذلك الحين مداواة أمراض المجتمع عن طريق تحرير أبناء الشعب من جهالتهم وبؤسهم. وفي هذا يقول:" كانت حياتي خلال ثلاثين عاماً نضالاً مستميتاً ضد الفقر المريع... ولقد أكرهت أكثر من ألف مرّة أن أمضي بلا غداء.. وكنت أفعل هذا كله لأسدّ حاجات الفقراء عن طريق تطبيق آرائي ومبادئي ".
والحق أنّ أول ما أنشأ بستالوتزي من مؤسسات كانت مدارس للأطفال الصغار حتى أنه في آخر حياته عاد إلى "نويهوف" وأنشأ فيها مدرسة للأطفال الفقراء الصغار. وكان يعتبر مدرسة نويهوف" تجربة في التربية الخلقية والمادية عن طريق العمل والنظام والتعليم بحيث كان النشاط الفكري فيها مقتصراً على بعض التمرينات في اللغة والغناء والقراءة والتوراة أما معظم الوقت فكان يخصّص للعمل الزراعي.
في عام 1780 ظهر لبستالوتزي كتاب بعنوان " أمسيات ناسك " حيث أبرز فيه مجموعة من الحكم تركزت حول نهضة الشعب عن طريق التربية، منتقداً فيها أسلوب التعليم المصطنع في عصره ومصرّاً على ضرورة تنمية الروح عن طريق إثارتها " من داخل" عن طريق " البيت الذي هو أساس تربية الإنسانية ". ويؤكد فكرة أساسية من أفكاره التربوية ألا وهي وضع تربية الشعب في أيدي الأمهات. والتربية عند بستالوتزي ليست إلا النمو العضوي للطفل، نموّاً عقلياً وأخلاقياً وجسدياً. والتربية الصحيحة عنده هي إنماء القوى الكامنة في الفرد وبتهيئة الفرص له لاستغلال كفاءاته.
ونرى أفكاره التربوية تشعّ في كل ما كتب. ففي " الأقاصيص" مثلاً نجد أفكاراً تحمل اتجاهاً خلقياً وتربوياً.
وفي أبحاثه عن " دور الطبيعة في نموّ العرق البشري " يحاول إبراز الوزن الكبير الراجح الذي يسنده للطبيعة في تربية الإنسان.
وفي عام 1801 ظهر كتابه " كيف تعلّم جيرترود أطفالها " الذي وصفه أحد تراجمة حياته بأنه أهم مؤلفاته التربوية وأعمقها.
وفي عام 1803 نشر بستالوتزي آتاباً غير تام في التعليم الابتدائي بعنوان "آتاب الأمهات حيث كان همه أن يعرّف الطالب على الأشياء التي آان يراها أمامه في الطبيعة.
أما المؤسسات التي أنشأها وأدارها لتعليم الطلاب الفقراء ولإقامتهم فكانت على التوالي:
1780 ) الذي ركز فيه على التربية الخلقية والمادية – ملجأ نويهوف ( 1775
1799 ) حيث أشار إلى التعليم المتبادل وجمع بين العمل – ملجأ الأيتام في ستانتز ( 1798اليدوي والفكري.
والمدارس الابتدائية في بورغدورف ( 1799
1804 ) الذي أشار فيه إلى جعل التربية سيكولوجية. – ومعهد "بورغدورف " ( 1801
1815 ) الذي كان بمثابة مدرسة للتعليم الثانوي – وأخيراً معهد " ايفردون ( 1805
مخصصة للطبقة الوسطى والذي طوّر فيه أساليبه بمعاونة مساعديه. وكان بستالوتزي قد غدا طاعناً في السن ولم ينجح في إكمال طرائقه التعليمية.
أما الأسلوب الذي كان يتبعه مع تلاميذه فكان يستمع إلى ما حفظوه من الدروس من الساعة السادسة إلى الثامنة صباحاً ومن السابعة إلى الثامنة مساءً. أما ما تبقى من الوقت فكان يخصصه للعمل اليدوي. وقد بسّط الأساليب المتبعة وبحث في كل فرع من فروع التعليم عن نقطة انطلاق ملائمة لمدارك الطفل الغضّه. وكان يلجأ في الوقت نفسه إلى التعليم المتبادل بحيث يعلّم التلاميذ بعضهم بعضاً. وكانت القراءة ممتزجة بالكتابة. أما التاريخ الطبيعي والجغرافيا فكانا يدرسان على شكل دروس ومحادثة. أما الشيء الذي عني به بستالوتزي قبل غيره فهو تنمية المشاعر الخلقية وقوى النفس الداخلية. فأراد أن يوقظ في طلابه مشاعر المحبة الأخوية وأن يثير فيهم الفضائل.
ويعتبر بستالوتزي أن كل أصول المعرفة يمكن أن تجمعها مبادئ ثلاثة: (الكلمة (اللغة و(الشكل (الرسم والكتابة) والعدد (الحساب. والجدير ذكره أنه أعطى العناية والتقدير للحدس لاحقة دوماً لتجاربه لا سابقة لها. كان رجل حس وحدس قبل أن يكون رجل عقل ومحاكمة. فالمعنى الأهمّ لعمله هو جعل التجريب قاعدة العمل التربوي بدلاً من التقليد. والتعليم عنده يخاطب الذكاء قبل الذاكرة وكان يوصي معاونيه أن يعنوا بتنمية الطفل لا بترويضه كما يروّض أحدهم كلباً. لهذا فهو يعتبر أنّ مشكلة التربية بكاملها يجب أن تعالج من وجهة نظر الطفل ونفسه النامية التي استندت إلى أسس نفسية.
مبادئ التربية عند باستالوزي :
ولتكوين فكرة صحيحة عن هذا اللون من التربية الإنسانية الصادقة عند بستالوتزي نوجز مبادئه على لسان تلميذه " مورف" بما يلي:
- أساس التعليم الملاحظة أو الإدراك الحسي.
- (يجب الربط دوماً بين اللغة والملاحظة (أي ربط الكلمة بشيء.
- إنّ فترة التعلّم ليست فترة المحاكمة والنقد.
- ينبغي أن يبدأ التعليم في كل فرع من فروعه بأبسط عناصره وأن يتقدّم تدريجياً مسايراً نمو الطفل وتطوره أي وفق ترتيب سيكولوجي.
- يجب إعطاء كل نقطة من نقاط التعليم الوقت الكافي وذلك لضمان إتقان الطفل لها).
- ينبغي أن يكون التعليم تابعاً لنظام النموّ الطبيعي وألاّ يتبع نظام العرض التراكيبي.
- إنّ فردية الطفل مقدّسة ويجب على المعلّم أن يحترمها.
- ليست الغاية من التعليم الابتدائي جعل الطفل يحصل على المعرفة والمواهب بل زيادة قواه العقلية وتنميتها.
- يجب أن تقترن القدرة العملية بالحكمة والمعرفة أي أن تقترن المهارة العملية بالقدرة النظرية.
- يجب أن تقوم علاقة التلميذ بالأستاذ على أساس المحبة.
- يجب أن يكون التعليم في خدمة الهدف الأسمى للتربية.
طرق التدريس الطفل او تعليمه عند باستالوتزي :
ونتيجة للمبادئ السابقة أشار بستالوتزي إلى بعض الطرائق التي تأخذ في الاعتبار:
• وجوب أن يعرف الطفل كيف يتكلم قبل أن يتعلّم القراءة.
• وجوب مراعاة النمو الطبيعي في دراسة اللغة فتدرس الأسماء أولاً ثم الصفات وأخيراً الجمل.
• وجوب الاستعانة بالأشياء المادية المحسوسة لتعليم مبادئ الحساب.
• ليس من الضرورة على الطلاب أن يحفظوا شيئاً عن ظهر قلب.
• ضرورة أن يقترن العمل العقلي بالعمل اليدوي وأن تخصّص الساعة الأخيرة للعمل الحرّ الذي يختاره الطالب.
تجدر الإشارة إلى أن بستالوتزي امتاز على روسو بأنه عمل من أجل الشعب، وإنه طبّق المبادئ التي وضعها روسو لتربية فرد واحد، على عدد كبير من الأطفال معتبراً التربية واسطة للإصلاح الاجتماعي. وهو أكثر المربين المحدثين إيحاء ودفعاً. وإذا لم يتح له أن يعمل على بعث التربية الفرنسية، فقد كان أعظم ملهم في إصلاح التربية الشعبية في ألمانيا. فقد امتدحه الفيلسوف "فخته" عام 1802 بقوله:" إنني أتوقّع بعث الأمة الألمانية من معهد بستالوتزي ".وخير كلام نختم به الحديث عن بستالوتزي هو ما كتب على النصب التذكاري الذي أقامته له مقاطعة "ارجوفيا" عام 1846 حيث نقرأ:" هنا يرقد بستالوتزي المولود في زوريخ في الثاني، عشر من كانون الأول عام 1746 والمتوفي في " بروغ" في السابع عشر من شباط عام 1827منقذ الفقراء في "نويهوف"، وواعظ الشعب في "ليونارد وجيرترود " وأبو الأيتام في "ستانتز"،ومعلم الإنسانية في "ايفردون" .
نقد و تقييم لطريقة بستالوتزي التربوية:
من السلبيات:
أخذ على " باستالوتزي" أنه نادى بضرورة البدء بالأصوات و المقاطع قبل الكلمة و الجمل ومن الجزء إلى الكل)، وهذه الطريقة لا تناسب عقلية الطفل الصغير: البدأ بالجملة أو الكلمة .
من الايجابيات:
-1 أن دروس الأشياء التي تعد من أحد إختراعات "باستالوتزي" لا تناسب إلا الأطفال الصغار في المرحلة التعليمية الأولى لهدا فإن جهوده الإصلاحية قد تركزت في مجموعها على المرحلة الابتدائية أما المراحل التعليمية التي فوق المرحلة الابتدائية فإذا لم تحظى باهتمام يذكر عند ه ، وهذا بحد ذاته ليس عيبا بل هو الاختصاص كما نقول في عصرنا الراهن .
-2 الربط بين أهمية التربية و إصلاح أحوال الفرد و المجتمع، في الوقت الذي اهتمت فيه بفردية الطفل و بتحرير شخصيته، فإذا لم تبالغ في هذه الحرية كما بالغت أفكار روسو، كما أنها لم تهمل الوسط الاجتماعي في التربية، بل اعتبرته عاملا ضروريا في العملية التربوية..
-هربارت : 1776/1841
لا يكتمل الحديث عن الاتجاه الجديد الذي أسّسه بستالوتزي في مجال التربية إلاّ إذا تناولنا بالبحث مذهب المربي الألماني "هربارت" ( 1)، إلى جانب ما سنذكره عن "فروبل" لاحقاً. إذ يمثلون جميعاً الاتجاه النفسي الجديد في التربية أي الاتجاه الذي يجعل الحياة النفسية للطفل أساساً للمذهب التربوي. مع الإشارة إلى أننا لا نجد لدى بستالوتزي مذهباً سيكولوجياً واضحاً يدين به على حين ، نجد هربارت يأخذ بوجهة أصحاب نظرية التداعي وفروبل يأخذ بالنزعة الفعالة في علم النفس.
ولد "يوحنا فردريك هربارت" في مدينة " ألدنبرغ" الألمانية عام 1776 . وكان يرى أنّ الأطفال لا يصنعون عالمهم إنما الذي يصنع عالمهم هو عالم الأفكار التي كان يقدمها لهم. وهذا هو مفتاح فلسفته في التربية. إذ أن عقولنا تتكوّن من طائفة الأفكار التي يطبعها فينا العالم ومعلّمونا من حولنا.
وفي أثناء إقامته في سويسرا اتصل هربارت ب "بستالوتزي" وزار معهده في "برجدورف"
عام 1799 ، وتركزت هذه الزيارة أثراً كبيراً في فكره.
أصدر هربارت في عام 1816 كتابه "علم النفس" وفي عام 1824 أصدر آتاب آخر "علم النفس كعلم " وطائفة من الكتب الفلسفية. ولكن لسوء حظّه أنه كان العهد في ألمانيا في ذلك الحين عهد الفيلسوف "هيجل". ولهذا لم يلق هربارت الانتباه الذي كان يراه جديراً بفلسفته. وإلى حين وفاته عام 1841 كان ينكّب على تهذيب مبادئه التي أظهرها في كتابه التربوي العلمي " المختصر في مبادئ التربية ".
من المعروف أن الموضوعات الأساسية لعلم النفس التربوي موضوعي التعلّم والنمو، وأنّ أهمّ المسائل المطروحة هي: كيف نتعلم، كيف يغدو التعلّم ميسّراً وباقياً، كيف يرتبط التعلّم بالعمر، ما هي الشروط الجسدية والفروق الفردية فيه... وصولاً إلى السؤال الكبير: كيف ينبغي أن نعلّم ؟ وجاء الجواب على لسان هربارت: أننا نتعلم عن طريق التداعي أو الترابط. علماً أن مذهب التداعي ليس جديداً. فنحن نقع عليه لدى أفلاطون حيث أشار إلى التداعي بالاقتران وإلى التداعي بالمشابهة وزاد عليها أرسطو مبدأ ثالثاً هو التداعي بالتضاد. وهذه المبادئ الثلاثة (الاقتران والمشابهة والتضاد) ظلت مشترآة أخذ بها جميع علماء النفس المتأخرين الذين قالوا بمذهب التداعي.
ومن المذاهب الأخرى التي تأثر بها هربارت ولكن بشكل سلبي مذهب "الملكات النفسية" الذي كان موجوداً عند أفلاطون وأرسطو اللذين آانا يقرران أنّ ملكة العقل أعلى ملكة وإن عليها أن تراقب العمليات الدنيا. بينما هربارت كان يرى، خلافاً لأصحاب نظرية الملكات، أنّ العقل يعمل ككل وكوحدة وأن ليست ثمة ملكات منفصلة.
وتلقّى هربارت مؤثّرات أخرى كان لها شأن في مذهبه وذلك عن طريق "لوك" و "ليبنتز". فقد كان "لوك" يقول أنّ جميع الأفكار تأتي عن طريق التجربة الحسية وأن لا وجود للأفكار الفطرية. أما " ليبنتز" فقد هاجم نظرة لوك هذه وقرّر أنّ العقل ليس منفعلاً قابلاً إلى الحد الذي تصوّره لوك وأنّ نشاط العقل موجود حتى أثناء النوم. ومن هنا دخل الاهتمام باللاشعور في علم النفس الذي سمّاه ليبنتز باسم "الإدراكات الصغيرة" واستخدم كلمة إدراك ليشير إلى التلقّي السلبي المنفعل للأفكار بينما استخدم كلمة الإدراك السابق ليدلّ على الفهم الفعّال لما نتلقاه. أما هربارت فاستخدم كلمة "الإدراك السابق" ليشير إلى الدمج بين معطيات الإحساس والأفكار الجديدة وبين الإحساسات والأفكار السابقة.
تجدر الإشارة إلى أن الفارق الأساسي بين نظرة هربارت وبين نظرة أصحاب التداعي الآخرين أن الأفكار في نظره قوى حركية. أنها عنده فعالة نشيطة وهذا هو جوهر علم النفس الذي يدين به. لذا نرى التعلّم عنده يعني التمثل الفعّال للأفكار التي تتحد فيما بينها لتكوّن عن طريق الاندماج والانصهار أفكاراً أوسع وأشمل. فالأفكار المتصلة مثلاً باللون والشكل والملمس والطعم يمكن أن تتحد لتكوّن فكرة "البرتقالة " أو "التفاحة" وقد دعا هربارت هذه العملية باسم عملية " التشابك". غير أنّ الأفكار يمكن أن تتعارض وتتصارع آما في حال فكرتي الدائرة والمربع وعند غلبة الفكرة الأقوى تساق الضعيفة إلى هامش الشعور بل حتى إلى "بوابة" اللاشعور. ومن هناك قد يتاح لها أن تنبثق وتظهر إذا ما أتاحت لها الظروف ذلك. (يمكن التذكير هنا بفكرة الكبت التي سيأتي بها فرويد لاحقاً). وهكذا أدخل هربارت في ميدان علم النفس مصطلحات: الاندماج التشابك ، الصراع، البوابة، مركز الشعور وهامشه العمليات النفسية اللاشعورية.
وجعل هربارت الانفعال والإرادة مرتبطين بالعلائق التي تقوم بين الأفكار. فاللذة تحدث عندما تنسق الأفكار فيما بينها وتلتئم، بينما يحدث الألم عندما يقع الصراع بينها. والعلائق التي تقوم بين الأفكار اللذيذة تقود إلى الرغبة والإرادة. وأقوى زمرة من الأفكار تعود إلى العمل. وليس لأي من الملكات وجود مستقل فلا وجود إلاّ للأفكار والروابط بين الأفكار. و "كتلة الإدراكات " السابقة هي الكلمة التي تدلّ بها على جملة كيان الأفكار المترابطة وهي التي تمكننا من تفسير الأفكار الجديدة ومن تمثلها وفهمها. وعندما تتمثّل الأفكار الجديدة تصبح هي بدورها جزءاً من كتلة الإدراكات السابقة. وتستخدم من جديد لتفسير تجارب أبعد. وهكذا تبنى المعرفة في العقل على خطوات ومراحل متتالية. وهكذا يتكون العقل عند هربارت عن طريق الأفكار التي يطبعها فيه العالم الخارجي (على عكس ما قال به لوك وأصحاب التداعي بسلبية العقل) وبذلك يغدو للتربية، التي تقدّم مثل هذه الأفكار من القوة في صنع العقل وتكوينه. لقد أسس هربارت آراءه التربوية على الأخلاق وعلم النفس. فالأخلاق تحدّد الهدف وعلم النفس يشير إلى الوسائل.
أما هدف هربارت التربوي فيمكن أن نقول أنه من الواضح أن يكون هدف التربية الفضيلة لأن الهدف الأسمى للإنسان وللتربية بالتالي هو الأخلاق. والتربية، برأيه، هي عملية بلوغ الفضيلة التي تعني صحة الجسد والنفس والإرادة الخيرة والتعاون الاجتماعي الفعّال والعدالة والرغبة في اجتناب الخصومة والطاعة للسلطة الملائمة.
كان النقد يوجه دوماً إلى هربارت بسبب النزعة الفردية لمذهبه التربوي. ومهمة الفضيلة عنده، عندما تتعارض الإرادات، هو الحيلولة دون الصراع وتحقيق السلم.
يقسّم هربارت مراحل التربية إلى ثلاث: مرحلة القيادة، ومرحلة التعليم ومرحلة التدريب.
• إنّ التربية فيما يبيّن هربارت أمر ممكن لأن الأطفال كائنات مرنة قابلة لأن تتشكّل على نحو ما نريد، ولأنهم مهيأون لتلقي الانطباعات وحفظها. غير أنّ قابلية التربية هذه محدودة بالعمر والظروف وطبيعة الطفل، وآلّما نضج نضجت نفس الطفل واستوى طبعه نمواً أقل انفتاحاً للمؤثرات الخارجية. ولهذا كانت القيادة ضرورية للطفل ما دام غير مكتمل النضج لأن القيادة تضبط السلوك الراهن بينما مرحلة التعليم ومرحلة التدريب فتعدّانه للسلوك المقبل. ومن الضروري أن تخلو القيادة من اللين المفرط آما تخلو أيضاً من الضبط العنيف، إلا أنه سمح بالعقاب عندما يستحق الطفل ذلك. وسرّ القيادة الصالحة تكمن في أن نبقي الأطفال منهمكين ومهتمين بمشاغلهم الخاصة التي يختارونها. وبما أنّ الأفكار تتكون أولاً ثم تتبعها الرغبة والإرادة، ولما كانت الإرادة نتيجة الصراع بين الأفكار كان لزاماً أن يتمّ تكوينها عن طريق التعليم والمعرفة. فالتعليم هو الذي يبني الكتل الفعلية من الأفكار المؤدية إلى السلوك الخلقي. ومن هنا لم يكن التعليم مجرّد نقل المعلومات بلك أولاً وقبل هذا بناء الطبع. وتقديم التعليم المثقف هو الوظيفة الأساسية للمعلّم.
• الاهتمام ومشاركة الطفل ثم إنّ التعليم المثقف الذي يطالب به هربارت يستلزم الاهتمام، ولا يتمّ تمثّل المعرفة والأفكار تمثّلاً فعلياً إلاّ إذا شارك الطفل فيها مشاركة فعّالة. وليست مهمة المعلّم أن يجد الممّر من فكرة إلى أخرى بل هي تتجاوز ذلك إلى بناء تلك المجموعات من الأفكار التي يتمنى أن تغدو السائدة والمسيطرة في حياة التلميذ وهو يستطيع أن يفعل ذلك عن طريق قوانين التداعي والترابط مستخدماً القوانين الأولية كالاقتران والمشابهة والتضاد ثم القوانين الثانوية كالتكرار والشدّة والمدّة.
لقد تعلّم هربارت من بستالوتزي أهمية المشاهدة والتجربة المباشرة. والمبدأ الذي غلّبه "هربارت" هو أنّ العرض ينبغي أن يكون حيّاً بحيث "يتخيّل الطفل أنه أمام إدراك حسّي مباشر ".
المنهاج المدرسي:
يرى هربارت إنّ أفكارنا تعود إلى مصدرين إثنين: الطبيعة والجنس البشري، لذا يرى أنه من الواجب أن يستقي المنهاج المدرسي مادته منهما. لكن هربارت اهتم بالمصدر الثاني وأبرز أهمية الجانب الإنساني إبرازاً يتجاوز بكثير ما يذهب إليه بستالوتزي أو أصحاب النزعة الطبيعية الذين وجّهوا عنايتهم إلى المهارات العملية وأهملوا العناية بالدراسات الأدبية والإنسانية. أما هربارت فقد وضع اللغات والآداب والتاريخ في مستوى معادل للرياضيات والعلوم. وبيّن أنّ التربية التي تهمل الدراسات الإنسانية أو العلوم التربوية عرجاء. وبشأن دراسة اللغات أبرز هربارت أهمية الدراسات المقارنة للغات. ورأى أنّ دراسة اللغات القديمة اللاتينية واليونانية، ينبغي أن تستند إلى دراسة التاريخ القديم مع تعليم اليونانية قبل اللاتينية. وبخصوص دراسة التاريخ فهو يرى أن نبدأ بدراسة حياة الرجال وبالأقاصيص
" والأوديسّة" هي خير الأقاصيص القديمة. وأوصى بضرورة الاستعانة بشتى الوسائل الحسية المشخصة من أجل تصوير الأفكار التاريخية وعرضها. والتاريخ، برأيه، " ينبغي أن يكون معلّم الجنس البشري. وإذا لم يغدُو كذلك وقع اللوم إلى حدّ بعيد على أولئك الذين يدرّسونه في المدارس."
أما بشأن الرياضيات فيرى أن يكون تعليمه استقرائياً وموضوعياً وعملياً. وهكذا ينبغي أن تبدأ دراسة الرياضيات بالعدد والقياس والوزن، وبتدريب الحواس على تقدير المسافات والزوايا وغيرها من الأبعاد. وإلى جانب ذلك يرى ضرورة أن نعلّم شطراً من مبادئ العلوم وجانباً من الفلك والفيزياء وصنع الآلات وشيئاً من التدريب اليدوي لأنه " على كل كائن إنساني أن يتعلّم كيف يستخدم يديه ".
ولتحقيق الهدف الأسمى من التعليم وهو الفضيلة يجب على التربية أن تهتم بتحقيق اهتمامات الطفل التي يقسّمها هربارت إلى:
• اهتمامات تنبع من المعرفة وهي الخبرة الحسية التجريبية
• اهتمامات تتم عن طريق الربط وهي أفكار التعاطف الوجداني التي تربط الفرد بغيره، والأفكار الاجتماعية المرتبطة بالمجتمع. والأفكار الدينية المرتبطة بمصير الفرد.
• يرى هربارت أنّ النفس البشرية وحدة متصلة ولا تتكوّن من عقلية فطرية منفصلة أما رأيه بالتدريب، المرحلة الثالثة من التربية بعد القيادة والتعليم فيراه مسألة دقة ومهارة ومن الواجب أن نجتنب الطرائق الفظّة في تطبيق النظام. وعلى الطفل أن يتعلّم قيادة ذاته وضبط نفسه، والإرادة القوية لا يمكن أن تنمو إلاّ عن طريق الدربة. ويرى إنّ وظيفة المعلم الأساسية أن يقدّم للطالب حظا ًكافياً من التوجيه الخيّر ليجعل الأفكار الخيّرة في مركزا اهتمامه وعليه أيضاً أن يوقظ الإلهام والعزم لدى الطفل. ولا بدّ للمدرسة أن تيسّر للتلميذ الجوّ الاجتماعي اللازم. ولقد ذهب هربارت في هذا إلى حدّ القول بإنشاء جمهورية مدرسية حيث آان لهذه الفكرة الأثر الكبير لدى المربين المحدثين ما دفعهم للعناية بتنظيم المجتمع المدرسي على غرار جمهورية ديمقراطية صغيرة، يحكم فيها الطلاب أنفسهم بأنفسهم ويتمرّسون ضمنها بأساليب الحكم الجماعي الديمقراطي. ذلك أنّ هربارت قد أدرك منذ ذلك الحين أن من واجب المدرسة أن تشجّع الطلاب على التعبير الحرّ عن أفكارهم مهما تكن خاطئة. وطريقة عرض المادة عند هربارت تأخذ في الاعتبار كيفية عمل العقل التي بها تتسع دائرة الشعور مقسّمة إلى خمس خطوات:
- الإعداد أو التحضير وفيها يستدعي المدرّس إلى عقل تلاميذه الأفكار القديمة المرتبطة بالأفكار الجديدة التي يراد توصيلها للعقل
- العرض العقلي للأفكار الجديدة وهنا ترتبط الأفكار الجزئية بعضها ببعض وتتضح الفكرة العامة.
- الربط ويقصد به الصلة الحقيقية بين القديم والحديث بها يتمّ التمثيل العقلي للفكرة الجديدة وتتجمّع.
- الأفكار المتشابهة مع بعضها وتظهر نقاط الاختلاف. وتتمّ المقارنة في هذه الخطوة والمقارنة هي منطق الاستقراء
- التعميم. أدرك هربارت أنّ التفكير الحقيقي عن طريق تحليل الخبرات لاستخراج الصفات المعنوية، وبهذا تتكوّن المدركات العامة. وعن طريق التعميم يستنتج العقل القواعد من الجزئيات.
- التطبيق وفيه يستخدم الطفل المعرفة التي تعلّمها فهو يطبّق القواعد والمبادئ والمعارف في أنشطة مختلفة
ومن المآخذ التي توجّه إلى هربارت أنه لم يبرز أهمية التدريب الجسدي والتربية الجسدية، وشأنه في هذا شأن ديوي من بعده. وطبيعي ألاّ نجد مكاناً بارزاً للتربية البدنية في مذهب يستند إلى الأفكار والعقل المحض.
في الختام يمكن القول أنّ هربارت استخلص مفهومه عن التربية من الفلسفة كما اشتق هدفها من علم الأخلاق، كما يمكن القول أيضاً أن سوء طالع هربارت أنه كان في عصر هيجل الذي يكبره بست سنوات والذي كان مذهبه الفلسفي في أوج بريقه وإشعاعه في سماء الفلسفة بحيث تضاءل أمامه كل نجم آخر. وعندما ظهر كتابه الأول عام 1806 كان كل الناس في شغل عنه بمؤلفات "فيخته" و "هيجل". حتى لقد اشتكى هربارت سوء مصيره بقوله " أن مذهبي المسكين في التربية لم يكن قادراً إذ ذاك على أن يجهر بصوته ". وانقضت بعد ذلك ثلاثون سنة وظلّ هربارت يشعر مع ذلك أنه لم يحظ بما هو جدير به من اهتمام.
وكان لمذهب هربارت انبعاث جديد في ألمانيا عام 1865 كما أخذ أثره الكبير يظهر في الولايات المتحدة الأمريكية بعد حوالي عشرين عاماً. ويرجع الفضل في ذلك إلى طائفة من المعلمين الأميركيين الذين درسوا في ألمانيا ثم عادوا إلى بلادهم يحملون معهم الإيمان بمبادئ هربارت.
وبلغ من انتشار هذه المبادئ في أميركا حظاً وافراً إذ كتب " هرس" في تقريره العام عن التربية1895 : "لقد غدا في الولايات المتحدة من أنصار هربارت وأتباعه أآثر مما في – عام 1894ألمانيا نفسها ".3 فروبل ( 1782.
يعتبر فروبل ( 1) من المربين الذين تأثّروا ببستالوتزي وتابعوا نهجه في روحه العامة وطبّقوه بشكل خاص على تربية الأطفال الصغار. ويرتبط اسم فروبل باسم رياض الأطفال، فلا تُذكر إلاّ ويُذكر مبدعاً لفكرتها ومنشئاً لكيانها.
كان يملك من المفاهيم ما سمح لها بولادة تربية عملية كانت من أخصب أنواع التربية في ذلك العصر وأغناها بالنتائج المشخصة المحسوسة. ولم تثمر أعمال فروبل آما يرجو لها إلاّ بعد أن عدّلت مباحثه وطوّرت وأكملت لتغدو أساس آل ما نعرفه من تطور لرياض الأطفال في بلاد العالم. ولد "فريدريش فيلهلم أوغست فروبل" عام 1782 من قس بروتستانتي وتوفيت أمه وهو في الشهر التاسع من عمره. لم تسمح أشغال أبيه برعايته، ولم تستطع زوجة أبيه، التي دخلت حياته في السنة الرابعة من عمره، أن تقدّم له هذه الرعاية أيضاً. وبعد بلوغه العاشرة تعّهده خاله حيث مكث عنده خمس سنوات يعتبرها فروبل من أسعد أيام حياته لأنه عرف في بيته حظاً أكبر من الحرية وقدراً أوفر من الحرية. غير أنه لم يجد في المدرسة ضالته وأدرك منذ تلك الفترة معايب التربية في زمنه التي اعتبرها حملاً ثقيلاً على الطلاب. لم يستطع أبوه من إرساله إلى الجامعة لعجزه عن توفير النفقات اللازمة له بسبب ما كان ينفقه على دراسة أخيه الجامعية. فأرسله أبوه إلى صديق له صاحب غابات ليعلّمه مهنته بما في ذلك من التدريب على أمور السياحة والرياضيات التطبيقية. لكنه لم يفعل شيئاً من هذا. الأمر الذي دفع بفروبل لأن يكون معلّم نفسه من خلال ما كان يقرأه في مكتبة معلّمه حول الهندسة والغابات.
في العام 1799 حيث آان في منتصف الثامنة عشرة من عمره استطاع الانتساب إلى جامعة "يينا" بعد أن اقترح على أبيه أن يبيع الأرض التي ورثها عن أمّه ليسدّ بثمنها نفقات تعليمه.
وتابع في هذه الجامعة دراسة الرياضيات. في الثاني والعشرين من عمره حصل على عمل مع أحد مهندسي البناء، غير أنه لم يكن راضياً. وشعر أن ما ينشده حقاً هو العمل مع الشعب وبناء الرجال لا البيوت.
تعرّف على مدير مدرسة فرنكفورت النموذجية "غرونر" وهو أحد أتباع بستالوتزي حيث طلب إليه أن يكون مدرساً في مدرسته لطلاب بين التاسعة والحادية عشرة من العمر، فقبل وهكذا غدا فروبل معلماً. وأدرك منذ ذلك الحين حقيقة مواهبه وأنه خلق ليكون مربياً.
وفي خلال مقامه في هذه المدرسة آان اسم بستالوتزي يطرق مسامعه ويتردّد خلال أحاديث زملائه المدرسين ومدير المدرسة، فقصد "ايفردون" تسبقه توصيات مدير المدرسة، وقابله بستالوتزي مقابلة وديه لكنه خرج من زيارته هذه التي دامت أسبوعين، وعلى الرغم من إعجابه به ومحبته، وهو يحمل أحكاماً متعارضة عن منهج بستالوتزي.
ودفعه حماسه إلى العمل التعليمي، إلى أن يعدّ نفسه له. فرسم لنفسه خطة تتضمّن الإقامة في إحدى الجامعات فترة من الزمن وتفحّص آثار المربين الكبار وقضاء سنة في "ايفردون" من جديد لدراسة بستالوتزي في التربية. وبعد ذلك يغدو بوسعه أن ينشئ مدرسة للصغار على أسس جديدة.
أتيح لفرويل في خلال إقامته الطويلة أن يجلس إلى بستالوتزي طويلاً وقد أعجب بما لديه من تدريب للحواس ومن الشأن الذي آان يمنحه للأم في تعليم الطفل. ولا شك إنّ الفترة التي قضاها في "ايفردون" وجّهت فكره إلى الاهتمام بنموّ الطفل وآان لها الأثر العام في أبحاثه التالية.
اهتم فرويل بدراسة اللغات الشرقية وعلى رأسها العربية والعبرية ثم الفارسية غير أنه ما لبث حتى اقتصر على دراسة اللغة اليونانية.
وبعد وفاة أخيه مخلّفاً ثلاثة صبية بحاجة إلى الرعاية التربوية، جعل منهم فروبل النواة وأضاف إليها ولدين آخرين من أقربائه والأخ الصغير لرفيقه "لاجنتال". ومن أجل هؤلاء فتح مدرسته الأولى المستقلة في 13 تشرين الثاني من عام 1816 في قرية "جريسهايم" موطن صباه ثم ما لبث أن نقلها إلى قرية قريبة منها هي "كايلهاو" بعد أن تبرعت أرملة بمزرعتها الصغيرة لتكون مركزاً لمعهد فروبل. وقد كتب عندها قائلاً: "إنّ خطتي بسيطة جداً. إنّ ما أرجوه هو أسرة مدرسية سعيدة وحياة هادئة مع الطبيعة من حولي". وأقام فروبل بين الطلاب نوعاً من الحكومة قوامها ضرب من الديمقراطية الأبوية لها قوادها ومحكمتها ودستورها وكان على الطالب الذي يوقع بعض الضرر بالمدرسة أن يصلح هذا الضرر بنفسه. استطاع فروبل بعد أعماله في "كايلهاو" أن يكتب مؤلفه الشهير " تربية الإنسان" عام
1826 . غير أن بعض العقبات آانت بدأت بالظهور مهدّدة المشروع بكامله. وعلى رأس هذه
المصاعب الحاجة إلى المال. لكن بعد وفاة والد زوجته وترآه ثروة طائلة استطاع مع زوجته
" ميدندورف" وصديقه "لاجنتال" أن يكملوا البناء الذي بدأوه حتى بلغ عدد الأطفال حوالي 56 طفلاً.
في تلك الأثناء اتجه فروبل إلى إنشاء مشروع جديد آان فيه ملامح رياض الأطفال التي سينشئها فيما بعد، دعاه باسم مشروع " هلبا" الذي تخيّله على شكل معهد يضمّ مدرسة للفنون والصناعة ومدرسة عليا ومدرسة أوّلية ومدرسة للأمهات وأخرى للأطفال الأيتام بين الثالثة والسادسة من العمر. أعجب الدوق بمشروع فروبل وقرّر مساعدته على إنشاء هذا المعهد وسأله يوماً بعد أن وضع ابنه الصغير أمامه وسأله كيف يرى أن يربّى طفل مثله فأجابه فروبل "يربّى مع الأطفال الآخرين ويربى كطفل طالما أنه طفل ". ومن المظاهر الجديدة في هذا المعهد العناية بتربية الآباء. ففي المعهد آما ذكرنا سابقاً مدرسة لتعليم الأمهات. وفيها يبتغي فروبل أن يعلّم الأمهات ما على الأسرة من واجبات وما عليها أن تفعل لتيسّر لأطفالها النمو المبكر والطبيعي. والظاهرة الجديدة الأخرى في المشروع، مشروع "هلبا" هي إدخال أشكال عديدة من العمل اليدوي والفن والبناء.
وذلك لتكوين الروح العملية القادرة على إعداد الأطفال ليكونوا أعضاء فعالين في المجتمع. وكان ينظر إلى مثل هذا النشاط العملي آوسيلة تربوية لا آوسيلة للترويج أو للتدريب المهني فحسب. لكن مشروع "هلبا" ظلّ حلماً وأمنية بعد أن أقنع بعض خصوم فروبل الدوق بسحب تأييده له. وبعد أن تخلّى فروبل عن مشروع هلبا مضى إلى سويسرا وبعد سنوات عدة قضاها فيها سمّته حكومة "برن" عام 1835 مديراً لمدرسة المعلمين في "بريجدورف" وكان لها مدرسة تجريبية مرتبطة بها حيث استطاع فروبل للمرة الأولى أن يضمّ فيها صفوفاً للأطفال الصغار الذين بعمرالثالثة تقريباً وهكذا انطلق إلى العمل في حماسة ومحبة وأخذ يجمع الأعمال المناسبة لهم (أناشيد، أقاصيص، ألعاب..) مما جعل الأفكار التي راودته في "هلبا" أن تعود إلى الحياة من جديد.
غادر فروبل " بريجدورف" عام 1836 وكان يعتبر نفسه دوماً "مربياً للجنس البشري "
على نحو ما يشهد بذلك عنوان كتابه " تربية الإنسان" التي ينبغي أن تبدأ منذ الطفولة المبكرة. وكان اهتمام فروبل الدائم أن يجد أحسن الوسائل المادية التي من شأنها أن تثير قوى الملاحظة والفهم لدى الأطفال وتنمي نشاطهم الذاتي وقدرتهم الذاتية على التعبير. وثابر على التقدّم في استخدام اللعب والنشاط العضوي عند الأطفال استخداماً لم يسبق إليه من قبل.
وكان من بين الأسماء الأولى التي أطلقها فروبل على معهده: "المدرسة القائمة على غرائز الأطفال الفعالة " و"مدرسة التربية النفسية". وفي هاتين التسميتين ما يشير إلى منازعه في التربية.
لكنه أخذ يبحث عن اسم أبسط وأقدر على التعبير عما يريد، وفي أيار عام 1840 بينما كان يتنزه في الجبل وافته العبارة المطلوبة وصاح " وجدتها " وآانت العبارة هي " روضة الأطفال ".
أما فيما يتصل بالوسائل المادية للعب الأطفال فلقد اختار "فروبل" أشكالاً ثلاثة هي الدائرة والمكعّب والأسطوانة واعتبرها هدايا تقدّم للطفل. فالدائرة التي أوصى بها لرياض الأطفال هي الكرة التي تعتبر خير تعبير عن معنى اللعب عند الطفل. واللعبة الصحيحة هي التي تدفع الطفل لأن يعاود اللعب فيها مرة بعد مرة. واللعب في الحقيقة نتاج لارتباط بين ضدين: النشاط الحر للطفل ثم المثيرات الناتجة عن الشيء الذي يلعب به. والكرة هي خير ما يمثّل هذين الضدين لأنه يرميها فتعود إليه فيرميها ثانية وتعود وهكذا... وفي الكرة أيضاً حماية خلقية للطفل من الفساد وصرف لطاقته الحيوية في مجال مثمر وهي قوة جسدية ونشاط للأطراف. وتنويع اللعب بها يؤدي إلى فوائد لا تحصى.
أما الشكل الثاني الذي أوصى به فروبل فهو المكعّب. واختياره لم يكن عنده من قبيل الصدفة. والطفل بحسب خبرته يحسّ باللذة والسرور عندما يجد لعبة جديدة تشبه لعبته السابقة في أشياء وتختلف عنها في أشياء. فهذا التشابه والاختلاف موجود في المكعّب. فالكرة والمكعّب يمثلان الوحدة في الاتفاق والوحدة في الاختلاف. والفوائد التي يجنيها الطفل من اللعب بالمكعّب كثيرة أهمها معرفة بعض الحقائق الأولية عن الشكل والحجم والمساحة والعدد عن طريق الملاحظة الحسية المباشرة.
وفي الشكل الثالث، الأسطوانة، يتحقق وجود حلقة وسطى تجمع بين الضدين (الكرة والمكعّب). ومشاهدة الأطفال تزيد هذا الاختبار قيمة إذ نلاحظ ميل الأطفال الشديد إلى اللعب بقطع الخشب التي تشبه في شكلها الأسطوانة. ولم ينس فروبل في نهاية الأمر إبراز الوحدة بين هذه الألعاب الثلاثة وأن يدرك الطفل بالتاليك يتكون الشيء من أجزاء اتّحدت بل كيف تتكوّن الإنسانية من وحدة كبرى تضم وحدات صغرى.
بالإضافة إلى العناية بهذه الأشكال الثلاثة لم يغفل فروبل الاهتمام بوسائل مادية أخرى في لعب الأطفال من مثل قصّ الورق، اللعب بالعصي، الرسم، ألعاب الحركة (التجوال، الزيارة، التمثيل، الجري، المشي...).هكذا ولدت رياض الأطفال بعد جهاد دائب. وبالرغم من الشيخوخة التي بدأت تدبّ في جسم فروبل ظلّ يعمل ويحسّن المشروع الذي أنشأه. وطالب البلدية أن تعطيه قطعة أرض يقيم عليها روضة نموذجية ويضمّ إليها فصولاً لتدريب المدرسات على طريقته الجديدة. وفي هذه الفترة أصدر كتابه " أغاني الأمهات " وكما، ذلك في عام 1843 وبعد ذلك أخذ يطوف في أنحاء ألمانيا يحاضر وينشر تعاليمه. غير أنه لم يلق من مواطنيه الاهتمام الجدير به.
والحقيقة تقال إنّ البارونة " برتافون مارينهو لتزبيلو" يرجع إليها الفضل الكبير في انتشار حركة رياض الأطفال وتعميم هذه المؤسسات.
كما اصدر أمر من وزير التربية البروسي ينصّ على إلغاء رياض الأطفال بحجة أنها مؤسسات ثورية، ولعلّ السبب يعود إلى الخلط بين فروبل وابن أخيه ذي النزعات الاشتراكية. وهكذا توفي فروبل في العام التالي في 20 حزيران 1852 وأمر الإلغاء نافذ المفعول. ولم يلغ هذا المنع إلاّ بعد عشر سنوات أي في العام 1861 ومنذ هذا التاريخ الجديد أخذت رياض الأطفال تنتشر سريعاً.
وفي عام 1855 زارت البارونة برتا فرنسا وحصلت على تأييد مؤرخها الكبير " ميشليه" وغيره من مفكري فرنسا وعلمائها وبعثت بذلك الحماسة لرياض الأطفال. وانتقل أثر البارونة إلى هولندا وبلجيكا بل إلى إيطاليا. وهكذا انتشرت رياض الأطفال في هذه البلدان وغيرها وعلى رأسها النمسا.
وحول مبادئ فروبل النفسية يمكن القول إنّ كثيراً من سمات رياض الأطفال تكوّنت نتيجة ملاحظته سلوك الأطفال. مع الإشارة إلى أنّ هذه الملاحظة لم تكن ملاحظة منهجية منظمة. والسبب أنّ فروبل لم يكن عالم نفس بل كان ذا مبادئ نفسية. ويمكن تلخيص هذه المبادئ والأفكار بما يلي:
- التربية هي عملية طبيعية
- الطفل كيان عضوي متكامل، ينمو من خلال النشاط الذاتي ووفق قوانين طبيعية عفوية الفرد جزء عضوي من الجماعة.
- الكون كله كيان عضوي تنضوي تحته سائر الكيانات الجزئية. وكما أنّ اليد أو العين عضوان من أعضاء الجسد، فالفرد عضو في الجنس البشري، والجنس البشري عضو في الوعي الكوني الشامل، يعني الإله فالإنسان برأيه ومنذ بداية حياته كيان عضوي يحقق كامل تفتّحه ونموّه عن طريق النشاط الذاتي الخلاق. ومن هنا نستطيع أن نقول إنّ النشاط الذاتي من خلال المشاركة الاجتماعية هو أساس المبادئ النفسية التي يأخذ بها فروبل. ذلك أنّ مفهومه للفرد مفهوم تكويني أولاً. فالطفل ينمو ويبلغ النضج من خلال مراحل أربع: الطفولة والصبا والشباب والنضج. وثانياً أن مفهومه للفرد مفهوم فعّال لأن الطفل بطبعه آائن فعّال عامل فاستخدام الحواس والإدراك ينبغي أن ينمو أثناء النشاط الذاتي الخلاق.
مقدمة:
1- لمحة تاريخيــة:
a. رواد التربية في القرن 19:
1- بستالوتزي :1746-1827
مبادئ التربية عند باستالوزي :
طرق التدريس الطفل او تعليمه عند باستالوزي :
نقد و تقييم لطريقة بستالوتزي التربوية:
هربارت : 1776/1841