تطور الفكر التربوي // العصر النهضة //
كانت النهضة ( 1) التي تمّت في القرن الخامس عشر والسادس عشر نهضة فكرية وبديعية وحركة
اجتماعية فكانت لها بذلك أعمق الآثار في التربية. والسمة الأولى والأخيرة التي امتازت بها النهضة
هي نمو الفردية. والنشاط الذي شهدته حركة النهضة يعود إلى ثلاثة اتجاهات لم تكن معروفة في
العصر الوسيط:
الماضي
الاهتمام بالماضي والعودة إلى الأقدمين: فقد أدرك رجال النهضة أن اليونان والرومان عاشوا حياة
غنية عبّروا عنها في أدبهم وفنهم. وهم عرفوا العالم أآثر مما عرفه رجال القرون الوسطى. ونتيجة
لهذا الاتجاه كان الاهتمام بدراسة اللغتين اللاتينية واليونانية وآدابهما ثم تلا ذلك الاهتمام بالبحث عن
المخطوطات الباقية لهاتين اللغتين (دراسة الأدب القديم واللغات القديمة).
العالم الشخصي
الاهتمام بالعالم الشخصي وهو عالم الانفعالات أي الاهتمام بالعواطف وبصدق الاستمتاع بالحياة وتأمل لذائذها وتذوّق ما فيها من جمال وإدراك حقائق النفس البشرية حيث غدت العناية بالتأمل الباطني والتحليل النفساني صادرة عن أصل بديعي إنساني لا عن دافع فلسفي أو ديني آما كانت في العصر الوسيط. ونتيجة لهذا الهدف الثاني كان الإنتاج الفني والأدبي بما في ذلك الشعر والدراما والقصص والتاريخ وبالتالي العلوم الاجتماعية.
الطبيعة
الاهتمام بالطبيعة الجامدة: هذه العناية التي لم يكن أبناء العصر الوسيط يهملونها وحسب بل كانوا يعتبرونها غير لائقة وغير جديرة بأي اهتمام وذات أثر سيئ على الإنسان. ولنتيجة لهذا الهدف كانت ملاحظة الحوادث الطبيعية ملاحظة مباشرة والتجريب فيها تجريباً علمياً مما أدى إلا الاكتشافات الجغرافية والفلكية وطبع الحياة بطابع العناية بالطبيعة الأمر الذي أسس للتفكير العلمي الحديث.
ومما اتصفت به التربية في عصر النهضة تلك الرغبة في حياة جديدة وبالتالي في تربية جديدة مخالفة للتربية الاسكلائية تتجلى فيها روح التربية الحرة التي تساعد في تكوين الإنسان الكامل الصالح للاشتراك في النشاط الاجتماعي.
ومن أهم العناصر الجديدة لهذه التربية: العنصر الفيزيائي والاهتمام بشؤون السلوك بحيث جعلت الهدف الأول خلق التفكير في آل شؤون الحياة اليومية. ولقد أطلق على محتوى هذه التربية الجديدة الذي كان قوامه اللغات والآداب القديمة اسم الإنسانيات. وبهذا ضاق معنى التربية الإنسانية وغدا مقصوراً على العناية باللغات وتعلمها على نحو
ما نجد في المدارس الأوروبية من القرن السادس عشر حتى منتصف التاسع عشر. وإلى ذلك ضعف العنصر الفيزيائي والعنصر الاجتماعي.
والصفات العامة للتربية في عصر النهضة:
• أنها أعقبت تربية قاسية وزجرية كانت تخضع الجسد لنظام مرهق والفكر لحدود ضيقة في العصر الوسيط.
• أقامت وزناً للصحة الجسدية والنفسية
• اعتنت بتدريب الجسم
• اعتنت بإطلاق سراح العقل وتحريره من قيوده بعد أن ظلّ حبيس القياس
• عملت على تكوين الإنسان آكل في جسمه وعقله، في قلبه وإرادته بدلاً من أن تنمّي
ملكة واحوأهم النظريات التربوية لعصر النهضة التي سادت في القرن السادس عشر نجدها في مؤلفات
ايراسموس ورابليه ومونتيني.دة لديه هي ملكة البرهان العقلي وبدلاً من أن تجعل الإنسان آلة جدل
-ايراسموس
لم تحل تربية ايراسموس ( 1) (ألماني) الدينية بينه وبين حرية الفكر. فدعا إلى دراسة النمو ودراسة الطبيعة والتاريخ والحياة المعاصرة. بها يثير فكره ويصلح مجتمعه وأن تباح هذه الدراسة للنساء والرجال على حد سواء. كذلك اعتنى بالهدف الأخلاقي في التربية وبدراسة الأدب الديني والمشاركة في الأعمال الدينية. أما الطرق الوحشية في التعليم والنظام القاسي فيه، فيجب أن تستبعد وأن تستبدل بها طرق التشويق والإغراء كما ينبغي أن يستند التعليم إلى دراسة للطفل عميقة تعرفنا به وتجعلنا نحسن توجيهه.
ومن مؤلفات ايراسموس التربوية نذكر كتابه عن " طريقة كتابة الحروف " وكتابه عن "آداب الطفولة" و "الأمثال" و"المناظرات". وفي رسالة له عن "طريقة الدراسة " نراه يضع قواعد التعليم الأدبي وقواعد لدراسة النمو لإنماء الذاكرة. وفي رسالة أخرى عن "التربية الأولى الحرة للأطفال" تفوق الرسالة الأولى
أهمية نرى ايراسموس يدرس طبيعة الطفل ويوصي باستخدام الطرق المشوّقة ويحارب النظام القاسي الهمجي الذي كان سائداً في مدارس عصره.
يدعو ايراسموس إلى إدخال الطفل المدرسة منذ الصغر وإلى أن يمارس الأعمال الفكرية.
ومن أقواله نذكر:" أننا نتعلّم بيسر من الذين نحبهم ". الآباء أنفسهم لا يستطيعون أن يربوا أبناءهم تربية صحيحة عن طريق الرهبة وحدها ". "... باللين والإنذار الرقيق نستطيع أن نخلق منهم ما نريد إنّ تعليم القراءة والكتابة ممّل بعض الشيء. فعلى المعلم أن يخفّف هذا الملل باصطناعه طرقاً مشوّقة "...
ومن خلال هذه الحكم والأمثال نطلع على تربية رحيمة مليئة بالحب للأطفال، فايراسموس يطلب إليهم لين الأم ولطفها، وطيب الأب وألفته، ونظافة المدرسة وأناقتها، ورقة المعلم ورحمته.4
أما حول تعليم النساء فهو، شأنه كشأن رجال النهضة، يقبل مساواة المرأة بالرجل ويريد من المرأة
أن تكون أكثر طموحاً فيوصيها بجميع الدراسات التي تتيح لها أن تربي طفلها بنفسها وأن تشارك في
حياة زوجها الفكرية. ومن آرائه وجوب تعميم التعليم وأن يكون مجاناً للنساء والرجال مع التشديد
بصورة خاصة على الناحية الأخلاقية والدينية وأن تشكّل العبادة جزءاً من التربية كما تجب العناية
بالسلوك ويشير إلى أهمية عمل الأم وقيمة اللعب والتمرين الرياضي ووجوب المحافظة على الصلة
بين الحياة والمدرسة وحاجات العصر.
-رابليه
يعتبر رابليه من مفكري الصف الأول الذين أصلحوا التربية وأصلحوا فنّ تقويم النفوس البشرية وإنمائها. فقد رسم جهازاً تربوياً كاملاً. وبحق يمكن القول أن تربية رابليه هي المظهر الأول لما يمكننا أن ندعوه بالنزعة الواقعية في التعليم في مقابل النزعة الصورية المدرسية.
وفي مقابل التربية الضيقة التي تحمّل الذاكرة أآثر مما تحتمل وضع رابليه التربية الطبيعية التي تهيب بالتجربة والوقائع وتكوّن الفتى لا ليكون بارعاً في الجدل الفارغ، ولكن ليكون بارعاً في الحياة الواقعية وأحاديثها والتي تغني العقل وتزّين الذاكرة دون أن تخنق اللطائف الفطرية وحرية الفكر.
وحول تربية الجسد عني رابليه بالنظافة والرياضة لأن النظافة تحفظ الجسد والتمرينات تقوّيه. ويعطي أهمية للرياضة والنزهة والحياة النشيطة الفعالة في الهواء الطلق. أما حول تربية الفكر فشأن رابليه شأن كل معاصريه فهو يحمل آثيراً من الحماسة للآداب القديمة إلا أنه يزيد عنهم في ولوعه بالعلم وبالعلوم الطبيعية خاصة.
ويريد رابليه أن يكون فكر الطالب في يقظة دائمة وعمل دائم حتى على المائدة حيث يتعلّم عن طريق الحديث الذي يدور حول الأطعمة وحول الطبيعة وخواص الماء والخمرة والخبز والملح وكل ما هو محسوس يغدو موضع أسئلة وشرح. ومن هنا نرى أن طريقة رابليه في التعليم طريقة حدسية تعطى فيها الدروس بحضور الأشياء نفسها. آما يريد أن يتعلم تلميذه عن شوق ورغبة وأن يثقف وهو يلعب وأن يدرس الرياضيات نفسها عن طريق اللهو والتسلية. وليس من شك في أن رابليه كان له شأن مهم في التربية الدينية وكذلك في التربية الخلقية.
-مونتيني
يحتل مونتيني ( 1) مكاناً وسطاً بين "ايراسم" صاحب النزعة الإنسانية المغرقة، المعني بالآداب وحدها وبين "رابليه" المجدّد الجريء والذي ذهب الفكر إلى أبعد حدوده، والذي أراد أن يدخل في دماغ تلميذه كل تلك الموسوعة الهائلة من المعارف حتى ليكاد بها يتفجّر. وعلى حين " رابليه" يبلغ بالفكر والجسد حدّ الإعياء ويحلم بثقافة مفرطة يتعمق فيها الإنسان كل علم، يكتفي " مونتيني" بأن يتذوّق المرء من كل علم طلاوة أعلاه وأن يمر بالعلوم دون أن يستنفدها لأنه يعتبر أن العقل المنظّم المتقن خير من العقل المليء. وليس الأمر برأيه أمر جمع للمعلومات ولكنه أمر هضمها بيسر.
نظام اللطـــف القاســي
كان يعترض على النظام الذي يحتوي على القسوة والإكراه. ويحتقر العقوبات الجسدية والنظام القاسي ويريده معتدلاً رحيماً ولطيفاً. لا هو باللين ولا هو بالفظ القاسي يريده آما أطلق عليه اسم اللطف القاسي". وفي هذا يقول "إننا بدلاً من أن نحبّب الآداب للأطفال، لا نزوّدهم في الواقع إلاّ بالذعر والقسوة. فانزعوا القسوة والقوة، إذ لا شيء في نظري أقتل للطفل وأخطر على الطبيعة السليمة منهما... ".
التربية هي فنّ تكوين إنسان يرى مونتيني أن التربية هي فنّ تكوين إنسان بالمعنى الكامل وليست فنّ تكوين أخصائيين في بعض المعارف أو العلوم. وهو يدرك أنّ الآداب والدراسات الأخرى ليست غاية الثقافة ولكنها واسطة وأداة لها. والذي كان يعنيه من الثقافة هو أن يغدو الإنسان خيراً مما هو وأنفذ بصيرة وأسلم حكماً وتفكيراً. فهو يريد تكوين ملكة الحكم ويعتبر أن من الواجب أن نسأل أي الناس أحسن علماً لا أيّهم أكثر علماً.ومن هنا كانت تربية مونتيني تتصف بالروح العملية والنفعية ولا يعنيه التوغّل في أعماق العلوم إذ الدراسات المنزهة عن الغاية ليست من شأنه فهو يوصي بإنماء بعض الملكات مع توجيه عنايته الكبرى للملكات العملية، ويخضع آل شيء للأخلاق. فالتاريخ مثلاً ينبغي أن يتعلّم في نظره لا لمعرفة الحوادث ولكن لتقديرها واستخلاص العبرة منها. فمونتيني لا يقيم وزناً للدراسة في الكتب وحدها، وهو لا يعتمدها بقدر ما يعتمد التجربة وملاحظة الأشياء والأشخاص… فالأشياء ينبغي إذاً أن تسبق الألفاظ ومونتيني في هذا يستبق آومنيوس وروسو وآل المربين المحدثين.
معايب تربية مونتيني:
ومن معايب تربية مونتيني يشير المنتقدون إلى إهماله لشؤون القلب. فهو لم يمجّد إلاّ الفضيلة السهلة الهينة وهو نفسه لم يمارس الواجبات الشاقة التي تتطلّب جهداً. ومن معايب فكره أيضاً هو أنه لكثرة اعتداله وحبه للقصد يظل في آثير من الأحيان ضيق الأفق. ويتجلى انعدام الأفكار الرحبة لديه في آرائه حول المرأة خاصة. فهو من الذين يرون أن يبقوا المرأة في الجهالة بحجة أن الثقافة تسيء إلى مفاتنها الطبيعية وفي هذا يقول:" نحن والدين نرى ألاّ يطلب من النساء علم كثير ". ومع ذلك ورغم كل الثغرات الكبرى التي نجدها في مبادئه التربوية لا نستطيع إلاّ أن نعترف بأنه كان مربياً ذا حسّ سليم وأن كثيراً من آرائه جديرة بالإعجاب الدائم. وقد كان بحق المصدر الذي استقى منه " لوك" و "روسو" والجانسينيون كثيراً من أفكارهم.
قائمة المراجع // مع التهميش //
1/ راجع : -عبد الله عبد الدايم : التربية عبر التاريخ، بيروت، دار العلم للملايين، ص 265/272 .
-2 فاخر عقل : التربية قديمها وحديثها، بيروت، دار العلم للملايين، ص 67/85.
3/- سعد مرسي أحمد : تطور الفكر التربوي، القاهرة، عالم الكتب ص 360/372 .
ملاحظة : أرجو من يريد النسخ قبل ذلك يتفكرني بدعاء خالص لوجه الله على صفحتي // وان كنت تبحث عن موضوع معين فراسلني وسأكون سعيد بتقديمه لك والله المستعان ..